"كسا الأسود كل شئ بعد تشييع الجنازة وسيطر البؤس على العالم حتى أذان الظهر ومن الظهر إلى العصر ورأسي لا تسمع سوى الكلام ذاته البقاء لله.. شد حيلك البركة فيك وبكاء وعويل من بنات خالتي فريدة،وعمتي دلال، وابنة خال زوج خالتي صفية وغيرهن ،هذه جارتنا من أيام بيت وسط البلد زوجة عم عبده فراش مكتبي ، وهذه رباب ابنة عمي ،وهذه من ؟ لا أعرف ، ولا أصدق فهذا مقعد والدتي هناك في الزاوية وهو في موقع متميز لأنه يواجه الباب مباشرة وقد ظننت رغم كل ما حدث أنني سأفتح الباب لأجدها تقول: هل جئت يا حبيبي ،حمدا لله على سلامتك ،المقال والبرنامج اليوم كانا رائعين لكنك في حاجة إلى رميهما ورائك من أجل الحصول علي وجبة عشاء جيدة وكوب لبن ساخن تشربه و نحن نتحدث معا، فلا يعقل أن أرى ابني فقط عبر شاشة التلفاز ....... و لكني اليوم وجدت الباب مفتوحا ولم أجدها بل والأدهى أنه على مقعدها امرأة أخرى تحسب أن لم يرها أحد وهي تثرثر وتضحك إلى تلك المجاورة لها وسط سيمفونية العويل فنظرت مليا إلى هذه الكتلة من السواد و سألت نفسي : أين أمي ؟ هل انتظرتني طويلا ثم اضطرت إلى النوم ؟ أم أنني عدت مبكرا وهي في زيارة إلى إحدى الجارات ؟ وما أسخف رباط العنق هذا لماذا أرتديه ؟ وهل أنا في حاجة إلى تبديل ملابسي؟وجاءت الإفاقة على وقع أقدام المزيد من النساء اللاتي كن يصعدن السلم فتنحنحت غاضا بصري عنهن وأنا ألصق نفسي بالحائط في ذهول استمر مع وقوفي في سرادق العزاء حيث كان يقف إلى جواري عادل صديق عمري ، ورءوف وأحمد ابنا عمي ، وكريم ومحمد وعبد الله وحسني أولاد خالتي وغيرهم كثيرون ممن امتلأ بهم السرادق ،ولا أعرف إلى أين ذهب قلبي المكلوم وحل محله قلب آخر يفكر في أنني لست وحيدا الآن ، بل معي الله وهو أكبر كل شئ ومعي في الأرض أهلي صحيح أن ضغوط الحياة موجودة لكن قلوبنا مازال بها ما يهفو لكل شئ جميل مع الأهل والعائلة، وان طغت المتاعب الحياتية وانفض الأهل من حولي لظروفهم وظروفي فان ربي لن ينساني فمعي عادل صديقي ومع هذه الكلمة اختلست النظر إليه وداخلي يبتسم لأني اكتشفت أنني أعرف عادل منذ ربع قرن فقد كنا جيران على مقعد واحد في المدرسة
الابتدائية ولم نكن إلا طفلين جمعهما القدر أحدهما مغرم بالكلمات بشكل عجيب والآخر جاء إلى المدرسة والصمت يصاحبه وخلال أقل من شهر تحول من عصفور هادئ رقيق –من وجهة نظر مدرسينا
جميعا- إلى عفريت شقي خفيف الظل لا يهدئه شئ سوى العبث بالخطوط والألوان وبذلك فكلانا صادق القلم وأحبه ولكن على طريقته الخاصة ومررنا معا بفترة تطبيع كثرت فيها خلافاتنا البريئة واكتشف كل منا أن اختلافنا هو مدخل حقيقي للائتلاف بيننا كصديقين فرقتهما الأيام في المرحلة الثانوية بسبب سفر عادل مع أسرته إلى الإمارات العربية و هو ما فت في عضدي وجعلني اتخذ من السفر للخارج موقفا عدائيا لا استثناءات له ، ومضت المرحلة الثانوية كفيلم سينمائي ، أوله رسائل عادل ، وعقدته اعتقالي في غرفتي بأوامر من أبي حتى ألتفت للمذاكرة وأتخلى عن لعب الكرة مع أولاد الجيران في الشارع ،وحل هذه العقدة بمرور الوقت وتواطؤ أمي معي ومساعدتها لي باعتباري ابنها الوحيد للنزول ومقابلة أصدقائي واللعب معهم في غياب الجنرال ..أعني أبي رحمه الله .. وكنت أعرف كم تتضمن المسألة من مخاطرة وتضحية منها كزوجة لا تخفي خافية عن زوجها لذا ، قطعت عهدا على نفسي ألا أخذلها وألا أخذل نفسي وانتهت مهمتي بظهور النتيجة وحصولي على مجموع لا بأس به مكنني من الالتحاق بكلية الآداب جامعة الإسكندرية وانتهى الفيلم بعودة صديقي عادل من الإمارات ليفاجئني بجديد في جعبته وهو أنه لن يلتحق بكلية الفنون الجميلة التي كان يتمناها طوال حياته رضوخا لرغبة والده الذي كان لايراه إلا ضابطا في الجيش ليتجرع عادل نفس المرارة التي ذاقها والده الذي لم يتسن له الالتحاق بالكلية الحربية لأسباب لم أعرفها ،و لنبقى بعيدين ينتظر كل منا نهاية الأسبوع، أنا لأسافر من الإسكندرية للقاهرة وهو "علشان ينزل إجازة" ونلتقي .. ومرت أيامي ما بين عروس البحر الأبيض و بنت المعز ألتقي بكثيرين وأعرف كثيرين وأود كثيرين ولا يبق سوى عادل و أصدقاء آخرين جمع بينهم منذ زمن نفس المكان .. المدرسة .. ولا أعرف لماذا؟ أو بالأحرى ما السر في ذلك؟ وقبل أن تتشابك أفكاري أكثر كان المقرئ يقول : صدق الله العظيم ، وبكل الجمود الرابض بين قسماتي تركت يدي تسلم على المعزيين ولساني يتمتم في خفوت بكلمة شكر الله سعيكم ، و بعد وقت لا أعرف كم من الوقت ربت عادل على كتفي أمام باب شقتي ، وقالت أذناي : ماذا قال عادل آنفا؟ ولم أجب بل أجاب الهواء الذي أغلق باب البيت وكأنه يمنع دخولي في حنو و إشفاق ، فما كان مني إلا أن جبت في الطرقات بسيارتي على غير هدى ، فقد كانت سيارتي العزيزة " عزيزة" تسير وحدها ، ولم يكن هذا غريبا بالنسبة لي لأنني دائما أقول : عزيزة تعرف طريقها ولكن الغرابة كانت في ازدحام الشوارع في ذلك الوقت المتأخر من الليل وفي أثناء عام دراسي فمن المقرر أن يكون هؤلاء الأطفال والشباب في أسرتهم الآن استعدادا ليوم دراسي غدا ، وكذلك آبائهم كيف سيستطيعون الاستيقاظ والذهاب لأشغالهم لينتجوا ، لا أعرف ، أنا أسكن في منطقة حيوية قريبة من جامعة القاهرة ،وحديقة الحيوانات بالجيزة ، ومقر تخاريف في التحرير لكني ورغم ذلك لا أركب المترو ، هذا هو الأمر الذي جال بخاطري وأنا ألف كالمكوك في الشوارع المحيطة بمنزلي و فجأة، وجدت عزيزة تعود إلى حيث تنام كل يوم في جراج العمارة وأنا أتحرر من قيودي بدءا من رابطة عنقي تلك القاتمة إلى سترتي فنحن في إبريل ولا حاجة لي بهما وكذلك قررت لهما البيات في السيارة ومشيت .. مشيت إلى محطة المترو ، وقطعت التذكرة أمام تساؤل عيون رجل التذاكر وابتسمت وسرت إلى الحواجز أحترمها بإدخال التذكرة والعبور ضاحكا على فتاتين أمامي قفزتا هذه الحواجز تتسابقان ووصلتا إلى الرصيف ووصلت بعدهما وكياني يتساءل في دهشة : بنات في الشارع بعد منتصف الليل ، في المترو ، أين أنا ؟ ، وهل يثقان في أمان الظلام إلى هذا الحد وأين أهليهم ؟، وما كل هذه الحقائب هل هن عائدات من السفر ؟ ولماذا أنا خائف عليهما ؟ ، هل هي حمية الرجل الشرقي ؟، ووصل المترو وقفزت في عربة الرجال ظانا أن عربات المترو ستفرق بيني وبين هاتين الفتاتين إلا أنهما ركبتا عربة الرجال معي ومع قلة الركاب بحكم تأخر الوقت وانتصاف الليل جلستا ووقفت أنا على مقربة منهم وقفة تمنحهم أمان بحيث لا تكون عيوني متطفلة على وجوههم المتعبة ، وتمنحني متعة ركوب المترو والاقتراب من الناس بعيدا عن كمال سالم الصحفي والمذيع ، فأنا الآن كمال فقط ، كمال الساهرة عيونه ، داخل عربة المترو يقف ، بقميص وبنطلون وليس بذلة كاملة ، له أن يغني، أن يجري ، أن يختبئ من عيون الزمن الذي حول الإعلاميين إلى نجوم مثل نجوم السينما بشكل يمنحهم الشهرة وحب الناس ويجعل الضوء مسلطا عليهم أينما ذهبوا ، وفي المقابل يصبح حفاظهم على خصوصياتهم أمرا صعبا مثل حفاظ مصر على الطبقة الوسطى التي تتضاءل كل يوم مع غليان الأسعار، والاحتكار ، والزحام والتلوث حيث تتسع الفجوة ولا تكف الأرض عن الدوران ولا يكف رأسي عن التفكير ولكن مع تداخل الخطوط بيني وبين الفتاتين الجالستين سمعت إحداهما تقول: آه يا ندا كانت رحلة حلوة أوي فأجابت ندا بتنهيدة حارة:
فعلا ، واسترقت النظر إليهما فوجدت المتنهدة تمسك مرآة وتميل على كتف
صديقتها التي أمسكت بالهاتف المحمول وقالت لها: انظري ، لشريف
، ونادر كيف يجلسان قرفصاء أمام منتخب البنات وانظري إلى علا وعايدة و رزان كيف تبتسمن في وقار، ومحمد فقاطعتها فتاة المرآة وقالت:
محمد ، لقد أثبت هذا الولد كيف أن مازال هناك رجال هذه الأيام أرأيت كيف أصر على توصيلنا إلى المترو حتى لا نسير وحدنا في هذا الليل وهنا قاطعتها قائلة:
ندا، ماذا هناك ؟ لقد كنا في الرحلة مع كثيرين وأنت لا تكلمينني إلا عن محمد ، أخبريني ، ماذا حدث اليوم على شاطئ البحر المتوسط ، هل اصطادت سنارتك عريس البحر؟فضحكت ندا وقالت: منار أولا أنت سخيفة
ثانيا:محمد ولد محترم وهذا هو سبب إعجابي به لكنه في النهاية مجرد
زميل،هل استرحت الآن؟
إذن ردي على هاتفك عساه يكون السيد " مجرد زميل" وهنا التقطت ندا هاتفها وقالت ناظرة إلى منار في ابتسامة خبيثة : أيوه يا ماما أنا في المترو....
وعندما أنهت المكالمة ضحكت صديقتها وقالت : ترى كيف ستكون مناظرنا ونحن ندخل بيوتنا بعد منتصف الليل ؟فتشاركتا الضحك وتبادلتا عبارات ساخرة عرفت من بعض كلماتها انهما جامعيتان في الفرقة الثانية في كلية العلوم وأن هذه هي الرحلة الأولى لهما في الجامعة، بعدها أخرجت إحداهما بعض الشطائر وأخذت تأكل والأخرى تتكلم والهاتف المحمول شاهدا على ضحكاتهما البريئة حتى اصطدمت عينا إحداهما بعيني فسكتت وأخفضت عيناها في خفر ومرت دقائق قليلة شعرت خلالها بالحرج منهما وابتعدت خطوات حررت لسان إحداهما فقالت : ندا ، أليس هذا هو مذيع تخاريف ؟ فردت ندا وعيناها تلتحم بعيني في حذر يبتسم : بلى ، انه هو .. لا ما الذي سيأتي بالأستاذ كمال سالم إلى هنا ؟فأردفت منار : ربما أراد تفقد أحوال الرعية وقاطعتها صديقتها : مالك تتحدثين بسخف، أليس إنسانا مثلنا ؟ أم أنه من كوكب آخر ؟ فردت الأخرى : لا ، انه إنسان لكنه من فصيلة نجمية لاتسمح له بركوب المواصلات العامة وأكل الذرة في الشارع أو أكل السندويتشات في المترو كما نأكل نحن ,ثم انظري إلى ظهره الذي يوحي بأن هذا القميص لم ينعم بالكي أبدا، فكيف يكون هذا كمال سالم ؟ علاوة على أنه لا يرتدي النظارة ، فتنهدت قطرة الندا قائلة : اخفضي صوتك ، وعموما هذا الشاب يشبهه كثيرا، ولو كان هو، فأنا أعترف بأنه أكثر وسامة مما يظهر على الشاشة فضلا عن تميزه في مجاله كمذيع وصحفي الذي وضعه في هذه المرتبة النجمية التي أشرت إليها ، لكنه في نهاية الأمر إنسان عادي-يفرز جلده عرقا لا عطرا- وان كان محروما من كل هذه الأشياء التي ذكرتيها فكان الله في عونه ، وان لم يكن هو فهنيئا لهذا الشاب بالشبه بينه و بين كمال سالم وعساه أن يكون مثله في شخصيته، وهنا هبت زميلتها المكظومة وقالت : هيا إذن أيتها الرومانسية ، فالأستاذ كمال لن ينفعك إذا ما نسيك المترو داخله إلى المحطة القادمة وحملتا أحمالهما ونزلتا وأغلق الباب على ثرثرتهما وابتسم ثغري لرومانسية بنت اليوم التي رثت حالي في رقة ، وعقلانية ، فعلى قوتها في التعامل مع التكنولوجيا ، تجيد استعمال المرآة ، ووضع الخطوط التي تبقيها بريئة وتبعث في نفس من يراها النشوة بجمال العينين وطلاقة اللسان الذي أثقل بعلمها في كلماته ولم يهمل قلبها الذي لا يكل البحث عن رجل حقيقي ،و بعد قليل نزلت من المترو أتنفس هواء الحرية في ميدان التحرير متذكرا بنت الجيران الساحرة بضفائرها والتي كانت النافذة عالمها عادا ، بخطواتي سنوات عمري ال35،وجريت كما في مباريات كرة الجورب في الشارع ، و امتلأت فخرا ببطولاتي في جماعة الخطابة بالمدرسة ،وتمنيت سقوط المطر وأن تأخذني السحابة إلى الإسكندرية أيام الجامعة لأكل الآيس كريم على البحر دون اكتراث بالبرد ،البرد الذي بدأت أشعر به مع إدارتي لمفتاح مكتبي حيث دخلت أغني إحدى أغاني تسعينيات القرن الماضي يوم كان الجينز والهاتف المحمول والدش أشياء تزحف ببطء على مجتمعنا قبل أن يسمى عصرنا بعصر العولمة ، وبعد دقائق ، أمسكت بورقتي وقلمي لأكتب هذه الكلمات وأنا أحوج ما يكون لكوب من الشاي" .
وفي هذه اللحظة ، لم تكن حاجته لكوب الشاي أكبر من حاجته لشيء آخر ، شئ لم يتسن لشهرته النيل منه ، وهو عواطفه ،ودموعه فقد نحى ورقته وقلمه جانبا ، وأمسك بكتاب الله يقرأ فيه ويبكي ثم يستغفر الله ويبكي ، كالطفل الذي انسابت دموعه والتقطت له صورة فوتوغرافية علقت على الحائط أمام فتاة الصباح ذات الشعر الأسود بينما هي جالسة تتأرجح على كرسيها تتحدث عبر الأثير إلى صديقتها التي قالت لها :ألن تحرري برقية عزاء لكاتبك الأثير؟ وهنا ارتبكت وقد كسا القلق وجهها وقالت:من؟ فأجابت الأخرى:صحفي
التخاريف كمال لقد توفيت والدته هذا الصباح لذلك اعتذر عن تقديم البرنامج ، ولكن لماذا اعتذر عن كتابة مقاله أليس في المطبعة منذ الأمس أم أنه شغل بوالدته أم ... ألو ردي علي ..أين ذهبت؟...ألو ... ألو يا "ل..." وهنا أغلقت السماعة على ثرثرة الصديقة ، التي فتحت أبواب السهاد ، فلا نوم هذه الليلة ، والسير جيئة وذهابا في الشقة هي ملامح هذه السهرة ،التي لم تخل من حوار على رغم من وحدة الآنسة "ل" فقد خرجت إلى الشرفة وأخذت تتحدث : لقد عاتبتك لغيابك اليوم ولكن سامحني يا كمال ، ولا تحزن فالموت يختار ضحاياه ببراعة وأنا أنحني له احتراما لأنه وكما اختار أبواي بالأمس القريب اختار والدتك اليوم وهي بلا شك امرأة عظيمة أنجبت رجلا عظيما هو أنت، أرجوك، لا تحسبها مجاملة ولا تحسبه هوس مني بمشهور له مكانتك ،ولكن ....تقبل عزائي واعتذاري ورجائي بأن تبكي ، ابكي واسكب العبرات حتى تستريح ، واعلم أن هناك على الأرض من يصلي من أجلك حتى تعبر محنتك أيها الفارس ويربت على كتفك ويستعد لتحمل الألم عنك ، فاستعن بالله على الهموم والأحزان حتى تعود لي ، أقصد لعملك بسرعة ....تصبح على خير.
وما هي إلا دقائق وكانت"ل " تجلس على منضدة صغيرة ، تحتضن بأناملها القلم
و تنكب على الورقة بعيون متعبة ، يراقبها مظروف وردي رقيق ، و قطعة قطن ناصعة البياض ، وزجاجة عطر .......