الجمعة، 10 ديسمبر 2010

خارج حسابات الزمن -الحلقة الثالثة

وفي صباح اليوم التالي ، كان كمال يرتشف من كوب الشاي الذي أعده عم عبده الذي واساه بعد إدراكه كيف ساق الحزن هذا الشاب للمبيت في مكتبه ورسم على وجهه الإرهاق من أثر السهر ، ومع دقات الساعة السابعة أدرك كمال أن أمامه من الوقت ساعتان لبدء العمل في الجريدة لذا فقد اثر العودة للمنزل  وأخذ قسط من الراحة قبل بدء وقت العمل، ومع نزوله مغادرا الجريدة  في السابعة وعشر دقائق كانت" ل" تستيقظ في نشاط وتستعد للنزول هي الأخرى وبينما هو في المترو من التحرير إلى الجامعة بقميصه الأبيض وبنطاله الأسود  ، كانت هي تركب سيارة الأجرة من ميدان الجيزة إلى التحرير مرتدية الجونلة السوداء التي تجتاز ركبتيها ببضع سنتيمترات  والقميص الأبيض ، يفصل بينهما حزام أسود يلمع فاضحا دقة خصرها في غيرة من سواد ولمعان شعرها المرسل على ظهرها دون قيود ، وبين الأبيض والأسود كان رماد الأمس في شقته ، وقد دخلها  متلعثم الخطى ، يسمع صوت أمه يوم مات أبوه  وهي تقول:"كمال .. هذا أمر الله .. وحكمته .. احزن و ابك يا حبيبي فالدمع لا يحط من قدر الرجل بل يرفعه ولكن لا تدع الحزن يعميك عن غدك وما يجب أن تفعل  ، ولا تضل طريقك في ضباب الدموع لتتنبه إلى حكمة الموت الذي يقول لك دائما أنك لست خالدا و أنه لن يبق لك سوى صالح الأعمال التي تكسبك محبة الله في السماء ومحبة الناس في الأرض وتجعلك تفوز بأعظم جائزة  عند الله .. الجنة بإذنه تعالى " وقرأ فاتحة الكتاب ينظر إلى صورتها في صبر متذكرا كل شئ جميل ابتداء من صورتها بالأبيض والأسود والتي لونتها الأيام بأجمل ألوان عندما اقتحمها هو في طفولته وصباه وشبابه وكيف صنعته أمه وكانت مدرسته الأولى وهنا اثلج صدره بأنها وان واراها الثرى ستظل حبا لا يموت في قلبه ما بقي حيا فقد منحته رضاها وأكرمه الله بدعائها و سيظل هو يمنحها تفوقه ويهديها إنجازاته ويدعو لها بالمغفرة ، وصدقت على أفكاره صيحات الهاتف الأرضي الذي كان يرجو الإجابة حيث جاءه عبر الأثير صوت عادل يقول : جندي مجند كمال سالم مطلوب منك تسليم نفسك عندنا اليوم لتناول وجبة الغداء مع قائدك العقيد عادل ... وانتهت هذه المكالمة باتفاق الصديقين على تأجيل هذا الغداء ، وإفساح مجال أكبر لنغم رصين كان مصدره ذلك المزيج المذهل بين الحب والحرب في خطى كمال التي أنذرت بعودته لدوامة العمل محبا لشمس العاصمة و شموخ مآذنها وهدوء نيلها وبساطة أهلها ومحاربا يتصدى لكل ما يعكر صفوهم  ويعطل مسيراتهم نحو الغد فمن موقعه يحارب تراكم القمامة في الشوارع ، يحافظ على اتزانه أمام الوقفة اليومية للمحور وحوادث كوبري أكتوبر ،كفرد  من فريق عمل كبير جدا ،عمل على إصدار تخاريف  بحرارة تضاهي حرارة شمس يونيو في وقت كان مكتبه يعج بالفوضى بعد اجتماع مع صحفيي قسم التحقيقات والشد والجذب رد على هاتفه المحمول فإذا بها الزميلة كارمن ثروت تنبئه باعتذار ضيفة هذا الأسبوع بعد نزول الإعلانات وهو ما يعني احتمال إلغاء حلقة هذا السبت ،ورغم أن مثل هذه المفاجآت تكون سخيفة إلا أن التعامل معها بالتأكيد لا يحتمل كل هذا الذعر والتوتر المحملة به نبرات كارمن التي لم يزدها هدوء كمال وابتسامته إلا اشتعالا جعله يغلق الخط  ويختطف سترته بسرعة لا لشيء إلا صوت الدموع ، الذي جعله يشفق على زميلته المحبة بجنون لعملها ، والتي أعطت المسألة أكبر من حجمها إلى حد جعلها تتصور أنهما في سفينة تغرق، وهو وحده يستطيع إنقاذها بذهابه إليها ، رغم أن هذه المرأة تتمتع بشخصية فولاذية تجعلها تصل إلى نجاح بعد نجاح بلا توقف ، لكن ثمة أشياء تافهة تجعلها أضعف من أوراق الخريف وأقوى غضبا من الأعاصير كألا يكون الاستديو جاهزا قبل مدة قصيرة من البث المباشر ، أو عندما لا تحترم المواعيد ، فهي مثال نادر في التناقض والاختلاف مع نموذج المذيعة التي لاتهتم إلا بمظهرها ،أ و بإظهار الوردة الكبيرة  على معطفها أثناء التصوير بشكل يجعلك تعتبرها  أوبرا ويمفري مصر وهذا ما يبرر اندفاع كمال إليها  في عجل جعله يعصف باستقرار تلاً من الأوراق التي سقطت كشلال من فوق الدولاب الخشبي الصغير وهو ما خفف من وتيرة اندفاعه ليعيد النظر إلى هذه الأوراق في ملل أرجعه إليها  بخطوات مترددة وهو يحث يده على إعادتها لمكانها بشيء من الترتيب ،وبسرعة تسمح له بالانصراف حتى لا يتأخر، -لاسيما أن عم عبده انصرف منذ ما يقرب من ساعة- ، بيده كان ينفض عنها الغبار ، هذا تلغراف تعزية وهذا أيضا وهذا عدد قديم وهذه مسودة مقال لم ينشر بعد و .... ما هذا؟ ظرف وردي يعبق بعطر غريب ، جميل لكنه غريب ، بلا اسم ولا عنوان ، مكتوب عليه بالأزرق الأستاذ كمال سالم ، سرق لحظات من الزمن يتأمله ثم ضمه إلى أترابه ، ليجد توائم لهذا الظرف تنظر إليه من بين الأوراق ، ورغم اشتعال فضوله نحوها تركها بعد نظرته الباسمة لها وغادر المكتب طائرا إلى كارمن  التي استحال لهيب غضبها إلى نيران عمل مع فريق الإعداد في البحث عن البديل للضيف المعتذر ، فقال: مساء الخير جميعا ،أعتذر عن التأخير وجاءت انطلاقة كارمن نحوه كطلقات مدفع كلاشينكوف فما كان منه إلا الابتسام   لاعلان الهدنة والخطة البديلة ومفادها أن يقوم فريق الإعداد بتجميع أجزاء مميزة من حلقات سابقة يتم عرضها  في حين يكون الأستاذ كمال مع الجمهور على الهواء مباشرة ، يصارحه بما حدث من اعتذار ضيفهم المنتظر مع الاحتفاظ بخالص الاحترام له ، وتقديم خالص التقدير لضيفه الجديد وهو الجمهور نفسه ، ويفسح المجال للاتصالات الهاتفية ويكون ضيف الليلة هو أول المتصلين ويحاوره كمال وكارمن في كل شئ وتم تنقيح الفكرة من جانب المعدين على أساس المصداقية وموضوعية الحوار وبعد الشد و الجذب الذي استمر لست ساعات متواصلة كان كل شئ جاهزا لحلقة السبت في الوقت الذي أعلنت فيه القاهرة بداية جمعة جديدة في شهر يونيو بانتصاف الليل  حيث قاد كمال سيارته إلى الجيزة يطوف بخياله كل ما حدث في هذا اليوم الطويل ابتداء من هذا الصباح في الجريدة إلى جلسة المفاوضات الطويلة التي انتهت بحسم أمام المرأة الحديدية كارمن ثروت                   و هذه هي دوامة العمل اليومي بلا جديد لا ، بل هناك جديد تلك الخطابات الوردية ما سرها ؟
بل لماذا أفترض أن لها سر ؟ وعادت أمامه الصورة كأنه  مازال يمسك بها في المكتب .. المكتب ؟ ،" هاتفي المحمول ، في المكتب لقد نسيته "، جهر كمال بهذه العبارة وهو يفتش جيوبه  في جراج العمارة فعزم على العودة بالمترو إلى المكتب وقد كان له ما أراد حيث  فتح الباب ووجد هاتفه المحمول ووضعه في جيبه وقبل مغادرته ، لم يستطع  صد عينيه عن النظر للأظرف الوردية فعاد إليها وجثا على ركبتيه يستنطقها سرها و جال بخاطره أنه ربما فخ من أحد أصدقائه ، فرماهم من بين يديه مستنكرا مراهقة الفكرة ، ثم غادر غير واع بأنه دسهم في جيب معطفه إلا وهو على الدرج في مواجهة الظلام ودرجة من درجات السلم كانت مكسورة  -منذ أيام بل وربما سنوات- ، أسقطته يتأوه محدثا ضجة أزعجت الجيران الذين لم يبطئوا في استطلاع الأمر وأسرعوا في الاتصال بالإسعاف التي أخرها الزحام ما يزيد عن نصف ساعة حدث خلالها ما لم يكن في الحسبان حيث تلقفته أيادي أهل المروءة ممن أرادوا المساعدة فازدادت آهاته و استبدت به حتى فقد الوعي ولم تر عينيه سوى لون الظلام.......

الخميس، 2 ديسمبر 2010

خارج حسابات الزمن -الحلقة الثانية

"كسا الأسود كل شئ بعد تشييع الجنازة وسيطر البؤس على  العالم حتى أذان الظهر ومن الظهر إلى العصر ورأسي لا تسمع سوى الكلام ذاته البقاء لله.. شد حيلك البركة فيك وبكاء وعويل من بنات خالتي فريدة،وعمتي دلال، وابنة خال زوج خالتي صفية وغيرهن ،هذه جارتنا من أيام بيت  وسط البلد زوجة عم عبده فراش مكتبي  ، وهذه رباب ابنة عمي ،وهذه من ؟ لا أعرف ، ولا أصدق فهذا مقعد والدتي هناك في الزاوية وهو في موقع متميز لأنه يواجه الباب مباشرة وقد ظننت رغم كل ما حدث أنني سأفتح الباب لأجدها تقول:  هل جئت يا حبيبي ،حمدا لله على سلامتك ،المقال والبرنامج اليوم كانا رائعين لكنك في حاجة إلى رميهما ورائك من أجل الحصول علي وجبة عشاء جيدة وكوب لبن ساخن تشربه و نحن نتحدث معا، فلا يعقل أن أرى ابني فقط عبر شاشة التلفاز ....... و لكني اليوم وجدت الباب مفتوحا ولم أجدها بل والأدهى أنه على مقعدها امرأة أخرى تحسب أن لم يرها أحد وهي تثرثر وتضحك إلى تلك المجاورة لها وسط سيمفونية العويل فنظرت مليا إلى هذه الكتلة من السواد و سألت نفسي : أين أمي ؟ هل انتظرتني طويلا ثم اضطرت إلى النوم ؟ أم أنني عدت مبكرا وهي في زيارة إلى إحدى الجارات ؟ وما أسخف رباط العنق هذا لماذا أرتديه ؟ وهل أنا في حاجة إلى تبديل ملابسي؟وجاءت الإفاقة على وقع أقدام المزيد من النساء اللاتي كن يصعدن السلم فتنحنحت غاضا بصري عنهن وأنا ألصق نفسي بالحائط في ذهول استمر مع وقوفي في سرادق العزاء حيث كان يقف إلى جواري  عادل صديق عمري ، ورءوف وأحمد ابنا عمي ، وكريم ومحمد وعبد الله وحسني أولاد خالتي وغيرهم كثيرون ممن امتلأ بهم السرادق ،ولا أعرف إلى أين ذهب قلبي المكلوم وحل محله قلب آخر يفكر في أنني لست وحيدا الآن ، بل معي الله وهو أكبر كل شئ ومعي في الأرض أهلي صحيح أن ضغوط الحياة موجودة لكن قلوبنا مازال بها ما يهفو لكل شئ جميل مع الأهل والعائلة،  وان طغت المتاعب الحياتية وانفض الأهل من حولي لظروفهم وظروفي فان ربي لن ينساني فمعي عادل صديقي ومع هذه الكلمة اختلست النظر إليه وداخلي يبتسم لأني اكتشفت أنني أعرف عادل منذ ربع قرن فقد كنا جيران على مقعد واحد في المدرسة
الابتدائية ولم نكن إلا طفلين جمعهما القدر أحدهما مغرم بالكلمات بشكل عجيب والآخر جاء إلى المدرسة والصمت يصاحبه وخلال أقل من شهر    تحول من عصفور هادئ رقيق من وجهة نظر مدرسينا
جميعا- إلى عفريت شقي خفيف الظل لا يهدئه شئ سوى العبث بالخطوط والألوان وبذلك فكلانا صادق القلم وأحبه ولكن على طريقته الخاصة ومررنا معا بفترة تطبيع كثرت فيها خلافاتنا البريئة واكتشف كل منا أن اختلافنا هو مدخل حقيقي  للائتلاف بيننا كصديقين فرقتهما الأيام في المرحلة الثانوية بسبب سفر عادل مع أسرته إلى الإمارات العربية و هو ما فت في عضدي وجعلني اتخذ من السفر للخارج موقفا عدائيا لا استثناءات له ، ومضت المرحلة الثانوية  كفيلم سينمائي ، أوله رسائل عادل ، وعقدته اعتقالي في غرفتي بأوامر من أبي حتى ألتفت للمذاكرة وأتخلى عن لعب الكرة مع  أولاد الجيران في الشارع  ،وحل هذه العقدة بمرور الوقت وتواطؤ أمي معي ومساعدتها لي باعتباري ابنها الوحيد للنزول ومقابلة أصدقائي واللعب معهم في غياب الجنرال ..أعني أبي رحمه الله .. وكنت أعرف كم تتضمن المسألة من مخاطرة وتضحية منها كزوجة لا تخفي خافية عن زوجها لذا ، قطعت عهدا على نفسي ألا أخذلها وألا أخذل نفسي وانتهت مهمتي بظهور النتيجة وحصولي على مجموع لا بأس به مكنني من الالتحاق بكلية الآداب جامعة الإسكندرية وانتهى الفيلم بعودة صديقي عادل من الإمارات ليفاجئني بجديد في جعبته وهو أنه لن يلتحق بكلية الفنون الجميلة التي كان يتمناها طوال حياته  رضوخا لرغبة والده الذي كان لايراه إلا ضابطا في الجيش ليتجرع عادل نفس المرارة التي ذاقها والده الذي لم يتسن له الالتحاق بالكلية الحربية لأسباب لم أعرفها ،و لنبقى بعيدين ينتظر كل منا نهاية الأسبوع، أنا لأسافر من الإسكندرية للقاهرة وهو "علشان ينزل إجازة" ونلتقي .. ومرت أيامي ما بين عروس البحر الأبيض و بنت المعز ألتقي بكثيرين وأعرف كثيرين وأود كثيرين ولا يبق سوى عادل و أصدقاء آخرين جمع بينهم منذ زمن نفس المكان .. المدرسة .. ولا أعرف لماذا؟ أو بالأحرى ما السر في ذلك؟ وقبل أن تتشابك أفكاري أكثر  كان المقرئ يقول : صدق الله العظيم ، وبكل الجمود الرابض بين قسماتي تركت يدي تسلم على المعزيين ولساني يتمتم في خفوت بكلمة شكر الله سعيكم ، و بعد وقت لا أعرف كم من الوقت ربت عادل على كتفي  أمام باب شقتي ، وقالت أذناي : ماذا قال عادل آنفا؟ ولم أجب بل أجاب الهواء الذي أغلق باب البيت وكأنه يمنع دخولي في حنو و إشفاق ، فما كان مني إلا أن جبت في الطرقات  بسيارتي على غير هدى ، فقد كانت سيارتي العزيزة " عزيزة" تسير وحدها ، ولم يكن هذا غريبا بالنسبة لي لأنني دائما أقول : عزيزة تعرف طريقها  ولكن الغرابة كانت في ازدحام الشوارع في ذلك الوقت المتأخر من الليل وفي أثناء عام دراسي فمن المقرر أن يكون هؤلاء الأطفال والشباب في أسرتهم الآن استعدادا ليوم دراسي غدا ، وكذلك آبائهم كيف سيستطيعون الاستيقاظ والذهاب لأشغالهم لينتجوا ، لا أعرف ، أنا أسكن في منطقة حيوية قريبة من جامعة القاهرة ،وحديقة الحيوانات بالجيزة ، ومقر تخاريف في التحرير لكني ورغم ذلك لا أركب المترو ، هذا هو الأمر الذي جال بخاطري وأنا ألف كالمكوك  في الشوارع المحيطة بمنزلي و فجأة، وجدت عزيزة تعود إلى حيث تنام كل يوم في جراج العمارة وأنا أتحرر من قيودي بدءا من رابطة عنقي تلك القاتمة إلى سترتي فنحن في إبريل ولا حاجة لي بهما وكذلك قررت لهما البيات في السيارة  ومشيت .. مشيت إلى محطة المترو ، وقطعت التذكرة أمام تساؤل عيون رجل التذاكر وابتسمت وسرت إلى الحواجز أحترمها بإدخال التذكرة والعبور ضاحكا على فتاتين أمامي قفزتا هذه الحواجز تتسابقان ووصلتا إلى الرصيف ووصلت بعدهما وكياني يتساءل في دهشة : بنات في الشارع بعد منتصف الليل ، في المترو ، أين أنا ؟ ، وهل يثقان في أمان الظلام إلى هذا الحد وأين أهليهم ؟، وما كل هذه الحقائب هل هن عائدات من السفر ؟ ولماذا أنا خائف عليهما ؟ ، هل هي حمية الرجل الشرقي ؟، ووصل المترو وقفزت في عربة الرجال ظانا  أن عربات المترو ستفرق بيني وبين هاتين الفتاتين إلا أنهما ركبتا عربة الرجال معي ومع قلة الركاب بحكم تأخر الوقت وانتصاف الليل جلستا ووقفت أنا على مقربة منهم وقفة تمنحهم أمان بحيث لا تكون عيوني متطفلة على وجوههم المتعبة ، وتمنحني متعة ركوب المترو والاقتراب من الناس بعيدا عن كمال سالم الصحفي والمذيع ، فأنا الآن كمال فقط ، كمال الساهرة عيونه ، داخل عربة المترو يقف ، بقميص وبنطلون وليس بذلة كاملة ، له أن يغني، أن يجري ، أن يختبئ من عيون الزمن الذي حول الإعلاميين إلى نجوم  مثل نجوم السينما بشكل يمنحهم الشهرة وحب الناس ويجعل الضوء مسلطا عليهم أينما ذهبوا ، وفي المقابل يصبح حفاظهم على خصوصياتهم أمرا صعبا مثل حفاظ مصر على الطبقة الوسطى التي تتضاءل كل يوم مع غليان الأسعار، والاحتكار ، والزحام والتلوث حيث تتسع الفجوة ولا تكف الأرض عن الدوران ولا يكف رأسي  عن التفكير ولكن مع تداخل الخطوط بيني وبين الفتاتين الجالستين سمعت إحداهما تقول: آه يا ندا كانت رحلة حلوة أوي فأجابت ندا بتنهيدة حارة:
   فعلا ، واسترقت النظر إليهما فوجدت المتنهدة تمسك مرآة وتميل على كتف
صديقتها التي أمسكت بالهاتف المحمول وقالت لها: انظري ، لشريف
، ونادر كيف يجلسان قرفصاء أمام منتخب البنات وانظري إلى علا وعايدة و رزان كيف تبتسمن في وقار، ومحمد فقاطعتها فتاة المرآة وقالت:
محمد ، لقد أثبت هذا الولد كيف أن مازال هناك رجال هذه الأيام أرأيت كيف أصر على توصيلنا إلى المترو حتى لا نسير وحدنا في هذا الليل وهنا قاطعتها قائلة:
 ندا، ماذا هناك ؟ لقد كنا في الرحلة مع كثيرين وأنت لا تكلمينني إلا  عن محمد ، أخبريني ، ماذا حدث اليوم على شاطئ البحر المتوسط ، هل اصطادت سنارتك عريس البحر؟فضحكت ندا وقالت: منار أولا أنت سخيفة
    ثانيا:محمد ولد محترم وهذا هو سبب إعجابي به لكنه في النهاية مجرد
زميل،هل استرحت الآن؟
 إذن ردي على هاتفك عساه يكون السيد " مجرد زميل" وهنا التقطت ندا هاتفها وقالت ناظرة إلى منار في ابتسامة خبيثة  : أيوه يا ماما أنا في المترو....

وعندما أنهت المكالمة ضحكت صديقتها وقالت : ترى كيف ستكون مناظرنا    ونحن ندخل بيوتنا بعد منتصف الليل ؟فتشاركتا الضحك وتبادلتا عبارات ساخرة عرفت من بعض كلماتها انهما جامعيتان في الفرقة الثانية في كلية العلوم وأن هذه هي الرحلة الأولى لهما في الجامعة، بعدها أخرجت إحداهما بعض الشطائر وأخذت تأكل والأخرى تتكلم والهاتف المحمول شاهدا على ضحكاتهما البريئة حتى اصطدمت عينا إحداهما بعيني فسكتت وأخفضت عيناها في خفر ومرت دقائق قليلة شعرت خلالها بالحرج منهما وابتعدت خطوات حررت لسان إحداهما فقالت : ندا ، أليس هذا هو مذيع تخاريف ؟ فردت ندا وعيناها تلتحم بعيني في حذر يبتسم  : بلى ، انه هو .. لا ما الذي سيأتي بالأستاذ كمال سالم إلى هنا ؟فأردفت منار : ربما أراد تفقد أحوال الرعية وقاطعتها صديقتها : مالك تتحدثين بسخف، أليس إنسانا مثلنا ؟ أم أنه من كوكب آخر ؟ فردت الأخرى : لا ، انه إنسان لكنه من فصيلة نجمية لاتسمح له بركوب المواصلات العامة وأكل الذرة في الشارع أو أكل السندويتشات في المترو كما نأكل نحن ,ثم انظري إلى ظهره الذي يوحي بأن هذا القميص لم ينعم بالكي أبدا، فكيف يكون هذا كمال سالم ؟ علاوة على أنه لا يرتدي النظارة   ، فتنهدت قطرة الندا قائلة : اخفضي صوتك ، وعموما هذا الشاب يشبهه كثيرا، ولو كان هو،   فأنا أعترف بأنه أكثر وسامة مما يظهر على الشاشة فضلا عن تميزه في مجاله   كمذيع وصحفي الذي وضعه في هذه المرتبة النجمية  التي أشرت إليها ، لكنه  في نهاية الأمر إنسان عادي-يفرز جلده عرقا لا عطرا- وان كان محروما من كل هذه الأشياء التي ذكرتيها فكان الله في عونه ، وان لم يكن هو فهنيئا لهذا الشاب بالشبه بينه و بين كمال سالم وعساه  أن يكون مثله في شخصيته، وهنا هبت زميلتها المكظومة وقالت : هيا إذن أيتها الرومانسية  ، فالأستاذ كمال لن ينفعك إذا ما نسيك المترو داخله إلى المحطة القادمة وحملتا أحمالهما ونزلتا وأغلق الباب على ثرثرتهما وابتسم ثغري لرومانسية بنت اليوم التي رثت حالي في رقة ، وعقلانية ، فعلى قوتها في التعامل مع التكنولوجيا ، تجيد استعمال المرآة ، ووضع الخطوط التي تبقيها بريئة وتبعث في نفس من يراها النشوة بجمال العينين وطلاقة اللسان الذي أثقل بعلمها في كلماته ولم يهمل قلبها الذي لا يكل البحث عن رجل حقيقي ،و بعد قليل نزلت من المترو أتنفس هواء الحرية في ميدان التحرير متذكرا بنت الجيران الساحرة بضفائرها والتي كانت النافذة عالمها عادا  ، بخطواتي سنوات عمري ال35،وجريت كما في مباريات كرة الجورب في الشارع ، و  امتلأت فخرا ببطولاتي في جماعة الخطابة بالمدرسة ،وتمنيت سقوط المطر وأن تأخذني السحابة إلى الإسكندرية أيام الجامعة لأكل الآيس كريم على البحر دون اكتراث بالبرد ،البرد الذي بدأت أشعر به مع إدارتي لمفتاح مكتبي  حيث دخلت أغني إحدى أغاني تسعينيات القرن الماضي يوم كان الجينز والهاتف المحمول والدش أشياء تزحف ببطء على مجتمعنا قبل أن يسمى عصرنا بعصر العولمة  ، وبعد دقائق ، أمسكت بورقتي وقلمي لأكتب هذه الكلمات وأنا أحوج ما يكون لكوب من الشاي" .
وفي هذه اللحظة ، لم تكن حاجته لكوب الشاي أكبر من حاجته لشيء آخر ، شئ  لم يتسن لشهرته النيل منه ، وهو عواطفه ،ودموعه فقد نحى ورقته وقلمه جانبا ، وأمسك بكتاب الله يقرأ فيه ويبكي ثم يستغفر الله ويبكي ، كالطفل الذي انسابت دموعه والتقطت له صورة فوتوغرافية علقت على الحائط أمام فتاة الصباح ذات الشعر الأسود بينما هي جالسة تتأرجح على كرسيها تتحدث عبر الأثير إلى صديقتها التي قالت لها :ألن تحرري برقية عزاء لكاتبك الأثير؟  وهنا ارتبكت وقد كسا القلق وجهها وقالت:من؟ فأجابت الأخرى:صحفي
التخاريف كمال لقد توفيت والدته هذا الصباح لذلك اعتذر عن تقديم البرنامج ، ولكن لماذا اعتذر عن كتابة مقاله أليس في المطبعة منذ الأمس أم أنه شغل بوالدته أم ... ألو ردي علي ..أين ذهبت؟...ألو ... ألو يا "ل..."  وهنا أغلقت السماعة على ثرثرة الصديقة ، التي فتحت أبواب السهاد ، فلا نوم هذه الليلة ، والسير جيئة وذهابا في الشقة هي ملامح هذه السهرة ،التي لم تخل من حوار على رغم من وحدة الآنسة "لفقد خرجت إلى الشرفة وأخذت تتحدث : لقد عاتبتك لغيابك اليوم ولكن سامحني يا كمال ، ولا تحزن فالموت يختار ضحاياه ببراعة وأنا أنحني له احتراما لأنه وكما اختار أبواي بالأمس القريب اختار والدتك  اليوم وهي بلا شك امرأة عظيمة أنجبت رجلا عظيما هو أنت، أرجوك، لا تحسبها مجاملة ولا تحسبه هوس مني بمشهور له مكانتك ،ولكن ....تقبل عزائي واعتذاري ورجائي بأن تبكي ، ابكي واسكب العبرات حتى تستريح ، واعلم أن هناك على الأرض من يصلي من أجلك حتى تعبر محنتك أيها الفارس ويربت على كتفك ويستعد لتحمل الألم عنك  ، فاستعن بالله على الهموم والأحزان حتى تعود لي ، أقصد لعملك بسرعة ....تصبح على خير.
وما هي إلا دقائق وكانت"ل " تجلس على منضدة صغيرة ، تحتضن بأناملها القلم
و تنكب على الورقة بعيون متعبة ، يراقبها مظروف وردي رقيق ، و قطعة قطن ناصعة البياض ، وزجاجة عطر .......