الجمعة، 10 ديسمبر 2010

خارج حسابات الزمن -الحلقة الثالثة

وفي صباح اليوم التالي ، كان كمال يرتشف من كوب الشاي الذي أعده عم عبده الذي واساه بعد إدراكه كيف ساق الحزن هذا الشاب للمبيت في مكتبه ورسم على وجهه الإرهاق من أثر السهر ، ومع دقات الساعة السابعة أدرك كمال أن أمامه من الوقت ساعتان لبدء العمل في الجريدة لذا فقد اثر العودة للمنزل  وأخذ قسط من الراحة قبل بدء وقت العمل، ومع نزوله مغادرا الجريدة  في السابعة وعشر دقائق كانت" ل" تستيقظ في نشاط وتستعد للنزول هي الأخرى وبينما هو في المترو من التحرير إلى الجامعة بقميصه الأبيض وبنطاله الأسود  ، كانت هي تركب سيارة الأجرة من ميدان الجيزة إلى التحرير مرتدية الجونلة السوداء التي تجتاز ركبتيها ببضع سنتيمترات  والقميص الأبيض ، يفصل بينهما حزام أسود يلمع فاضحا دقة خصرها في غيرة من سواد ولمعان شعرها المرسل على ظهرها دون قيود ، وبين الأبيض والأسود كان رماد الأمس في شقته ، وقد دخلها  متلعثم الخطى ، يسمع صوت أمه يوم مات أبوه  وهي تقول:"كمال .. هذا أمر الله .. وحكمته .. احزن و ابك يا حبيبي فالدمع لا يحط من قدر الرجل بل يرفعه ولكن لا تدع الحزن يعميك عن غدك وما يجب أن تفعل  ، ولا تضل طريقك في ضباب الدموع لتتنبه إلى حكمة الموت الذي يقول لك دائما أنك لست خالدا و أنه لن يبق لك سوى صالح الأعمال التي تكسبك محبة الله في السماء ومحبة الناس في الأرض وتجعلك تفوز بأعظم جائزة  عند الله .. الجنة بإذنه تعالى " وقرأ فاتحة الكتاب ينظر إلى صورتها في صبر متذكرا كل شئ جميل ابتداء من صورتها بالأبيض والأسود والتي لونتها الأيام بأجمل ألوان عندما اقتحمها هو في طفولته وصباه وشبابه وكيف صنعته أمه وكانت مدرسته الأولى وهنا اثلج صدره بأنها وان واراها الثرى ستظل حبا لا يموت في قلبه ما بقي حيا فقد منحته رضاها وأكرمه الله بدعائها و سيظل هو يمنحها تفوقه ويهديها إنجازاته ويدعو لها بالمغفرة ، وصدقت على أفكاره صيحات الهاتف الأرضي الذي كان يرجو الإجابة حيث جاءه عبر الأثير صوت عادل يقول : جندي مجند كمال سالم مطلوب منك تسليم نفسك عندنا اليوم لتناول وجبة الغداء مع قائدك العقيد عادل ... وانتهت هذه المكالمة باتفاق الصديقين على تأجيل هذا الغداء ، وإفساح مجال أكبر لنغم رصين كان مصدره ذلك المزيج المذهل بين الحب والحرب في خطى كمال التي أنذرت بعودته لدوامة العمل محبا لشمس العاصمة و شموخ مآذنها وهدوء نيلها وبساطة أهلها ومحاربا يتصدى لكل ما يعكر صفوهم  ويعطل مسيراتهم نحو الغد فمن موقعه يحارب تراكم القمامة في الشوارع ، يحافظ على اتزانه أمام الوقفة اليومية للمحور وحوادث كوبري أكتوبر ،كفرد  من فريق عمل كبير جدا ،عمل على إصدار تخاريف  بحرارة تضاهي حرارة شمس يونيو في وقت كان مكتبه يعج بالفوضى بعد اجتماع مع صحفيي قسم التحقيقات والشد والجذب رد على هاتفه المحمول فإذا بها الزميلة كارمن ثروت تنبئه باعتذار ضيفة هذا الأسبوع بعد نزول الإعلانات وهو ما يعني احتمال إلغاء حلقة هذا السبت ،ورغم أن مثل هذه المفاجآت تكون سخيفة إلا أن التعامل معها بالتأكيد لا يحتمل كل هذا الذعر والتوتر المحملة به نبرات كارمن التي لم يزدها هدوء كمال وابتسامته إلا اشتعالا جعله يغلق الخط  ويختطف سترته بسرعة لا لشيء إلا صوت الدموع ، الذي جعله يشفق على زميلته المحبة بجنون لعملها ، والتي أعطت المسألة أكبر من حجمها إلى حد جعلها تتصور أنهما في سفينة تغرق، وهو وحده يستطيع إنقاذها بذهابه إليها ، رغم أن هذه المرأة تتمتع بشخصية فولاذية تجعلها تصل إلى نجاح بعد نجاح بلا توقف ، لكن ثمة أشياء تافهة تجعلها أضعف من أوراق الخريف وأقوى غضبا من الأعاصير كألا يكون الاستديو جاهزا قبل مدة قصيرة من البث المباشر ، أو عندما لا تحترم المواعيد ، فهي مثال نادر في التناقض والاختلاف مع نموذج المذيعة التي لاتهتم إلا بمظهرها ،أ و بإظهار الوردة الكبيرة  على معطفها أثناء التصوير بشكل يجعلك تعتبرها  أوبرا ويمفري مصر وهذا ما يبرر اندفاع كمال إليها  في عجل جعله يعصف باستقرار تلاً من الأوراق التي سقطت كشلال من فوق الدولاب الخشبي الصغير وهو ما خفف من وتيرة اندفاعه ليعيد النظر إلى هذه الأوراق في ملل أرجعه إليها  بخطوات مترددة وهو يحث يده على إعادتها لمكانها بشيء من الترتيب ،وبسرعة تسمح له بالانصراف حتى لا يتأخر، -لاسيما أن عم عبده انصرف منذ ما يقرب من ساعة- ، بيده كان ينفض عنها الغبار ، هذا تلغراف تعزية وهذا أيضا وهذا عدد قديم وهذه مسودة مقال لم ينشر بعد و .... ما هذا؟ ظرف وردي يعبق بعطر غريب ، جميل لكنه غريب ، بلا اسم ولا عنوان ، مكتوب عليه بالأزرق الأستاذ كمال سالم ، سرق لحظات من الزمن يتأمله ثم ضمه إلى أترابه ، ليجد توائم لهذا الظرف تنظر إليه من بين الأوراق ، ورغم اشتعال فضوله نحوها تركها بعد نظرته الباسمة لها وغادر المكتب طائرا إلى كارمن  التي استحال لهيب غضبها إلى نيران عمل مع فريق الإعداد في البحث عن البديل للضيف المعتذر ، فقال: مساء الخير جميعا ،أعتذر عن التأخير وجاءت انطلاقة كارمن نحوه كطلقات مدفع كلاشينكوف فما كان منه إلا الابتسام   لاعلان الهدنة والخطة البديلة ومفادها أن يقوم فريق الإعداد بتجميع أجزاء مميزة من حلقات سابقة يتم عرضها  في حين يكون الأستاذ كمال مع الجمهور على الهواء مباشرة ، يصارحه بما حدث من اعتذار ضيفهم المنتظر مع الاحتفاظ بخالص الاحترام له ، وتقديم خالص التقدير لضيفه الجديد وهو الجمهور نفسه ، ويفسح المجال للاتصالات الهاتفية ويكون ضيف الليلة هو أول المتصلين ويحاوره كمال وكارمن في كل شئ وتم تنقيح الفكرة من جانب المعدين على أساس المصداقية وموضوعية الحوار وبعد الشد و الجذب الذي استمر لست ساعات متواصلة كان كل شئ جاهزا لحلقة السبت في الوقت الذي أعلنت فيه القاهرة بداية جمعة جديدة في شهر يونيو بانتصاف الليل  حيث قاد كمال سيارته إلى الجيزة يطوف بخياله كل ما حدث في هذا اليوم الطويل ابتداء من هذا الصباح في الجريدة إلى جلسة المفاوضات الطويلة التي انتهت بحسم أمام المرأة الحديدية كارمن ثروت                   و هذه هي دوامة العمل اليومي بلا جديد لا ، بل هناك جديد تلك الخطابات الوردية ما سرها ؟
بل لماذا أفترض أن لها سر ؟ وعادت أمامه الصورة كأنه  مازال يمسك بها في المكتب .. المكتب ؟ ،" هاتفي المحمول ، في المكتب لقد نسيته "، جهر كمال بهذه العبارة وهو يفتش جيوبه  في جراج العمارة فعزم على العودة بالمترو إلى المكتب وقد كان له ما أراد حيث  فتح الباب ووجد هاتفه المحمول ووضعه في جيبه وقبل مغادرته ، لم يستطع  صد عينيه عن النظر للأظرف الوردية فعاد إليها وجثا على ركبتيه يستنطقها سرها و جال بخاطره أنه ربما فخ من أحد أصدقائه ، فرماهم من بين يديه مستنكرا مراهقة الفكرة ، ثم غادر غير واع بأنه دسهم في جيب معطفه إلا وهو على الدرج في مواجهة الظلام ودرجة من درجات السلم كانت مكسورة  -منذ أيام بل وربما سنوات- ، أسقطته يتأوه محدثا ضجة أزعجت الجيران الذين لم يبطئوا في استطلاع الأمر وأسرعوا في الاتصال بالإسعاف التي أخرها الزحام ما يزيد عن نصف ساعة حدث خلالها ما لم يكن في الحسبان حيث تلقفته أيادي أهل المروءة ممن أرادوا المساعدة فازدادت آهاته و استبدت به حتى فقد الوعي ولم تر عينيه سوى لون الظلام.......

ليست هناك تعليقات: